سورة آل عمران - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


قد تقدم ذكر اختلاف العلماء في الحروف التي في أوائل السور في أول سورة البقرة، ومن حيث جاء في هذه السورة {الله لا أله إلا هو الحي القيوم} جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الأقوال كلها في {الم} في هذه السورة، وذهب الجرجاني في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون {الم} إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول: هذه الحروف كتابك أو نحو هذا، ويدل قوله {الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب} على ما ترك ذكره مما هو خبر عن الحروف قال: وذلك في نظمه مثل قوله تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} [الزمر: 21] وترك الجواب لدلالة قوله: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} [الزمر: 21] تقديره: كمن قسا قلبه. ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فَلاَ تَدْفِنُوني إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ *** عَلَيْكُمْ، ولكنْ خامري أمَّ عامِرِ
قال: تقديره ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر.
قال القاضي رحمه الله: يحسن في هذا القول أن يكون {نزل} خبر قوله {الله} حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى. وهذا الذي ذكره القاضي الجرجاني فيه نظر لأن مثله ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه وما قاله في الآية محتمل ولكن الأبرع في نظم الآية أن يكون {الم} لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى وأن يكون {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} كلاماً مبتدأ جزماً جملة رادة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله عليه السلام فحاجوه في عيسى ابن مريم وقالوا: إنه الله وذلك أن ابن إسحاق والربيع وغيرهما ممن ذكر السير رووا أن وفد نجران قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى ستون راكباً فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلاً في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليه يرجع أمرهم، والعاقب أمير القوم وذو رأيهم واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب مجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أسد بني بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد إثر صلاة العصر عليهم جبب وأردية فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأينا وفداً مثلهم جمالاً وجلالة، وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله عليه السلام إلى المشرق فقال النبي عليه السلام: دعوهم ثم أقاموا بالمدينة أياماً يناظرون رسول الله عليه السلام في عيسى ويزعمون أنه الله إلى غير ذلك من أقوال بشعة مضطربة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون، ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال وسيأتي تفسير ذلك.
وقرأ السبعة {المَ الله} بفتح الميم والألف ساقطة، وروي عن عاصم أنه سكن الميم ثم قطع الألف، روى الأولى التي هي كالجماعة حفص وروى الثانية أبو بكر، وذكرها الفراء عن عاصم، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي وأبو حيوة بكسر الميم للالتقاء وذلك رديء لأن الياء تمنع ذلك والصواب الفتح قراءة جمهور الناس. قال أبو علي: حروف التهجي مبنية على الوقف فالميم ساكنة واللام ساكنة فحركت الميم بالفتح كما حركت النون في قولك: من الله ومنَ المسلمين إلى غير ذلك.
قال أبو محمد: ومن قال بأن حركة الهمزة ألقيت على الميم فذلك ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل فيما يسقط فلا تلقى حركته، قاله أبو علي، وقد تقدم تفسير قوله: {الحي القيوم} في آية الكرسي، والآية هنالك إخبار لجميع الناس، وكررت هنا إخباراً لحجج هؤلاء النصارى، وللرد عليهم أن هذه الصفات لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى عليه السلام لأنهم إذ يقولون إنه صلب فذلك موت في معتقدهم لا محاله إذ من البين أنه ليس بقيوم، وقرأ جمهور القراء {القيوم} وزنه فيعول، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس {القيام} وزنه- فيعال- وروي عن علقمة أيضاً أنه قرأ {القيم} وزنه فيعل، وهذا كله من قام بالأمر يقوم به إذا اضطلع بحفظه وبجميع ما يحتاج إليه في وجوده، فالله تعالى القيام على كل شيء بما ينبغي له أو فيه أو عليه.
وتنزيل الله الكتاب بواسطة الملك جبريل عليه السلام، و{الكتاب} في هذا الموضع القرآن باتفاق من المفسرين، وقرأ جمهور الناس {نزَّل عليك} بشد الزاي {الكتابَ} بنصب الباء، وقرأ إبراهيم النخعي {نزَل عليك الكتابُ} بتخفيف الزاي ورفع الباء، وهذه الآية تقتضي أن قوله {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} جملة مستقلة منحازة، وقوله {بالحق} يحتمل معنيين: إحداهما أن يكون المعنى ضمن الحقائق من خيره وأمره ونهيه ومواعظه، فالباء على حدها في قوله: جاءني كتاب بخبر كذا وكذا أي ذلك الخبر مقتص فيه، والثاني: أن يكون المعنى أنه نزل الكتاب باستحقاق أن ينزل لما فيه من المصلحة الشاملة وليس ذلك على أنه واجب على الله تعالى أن يفعله، فالباء في هذا المعنى على حدها في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} [المائدة: 116] وقال محمد بن جعفر بن الزبير: معنى قوله: {بالحق} أي مما أختلف فيه أهل الكتاب واضطرب فيه هؤلاء النصارى الوافدون، وهذا داخل في المعنى الأول، و{مصدقاً} حال مؤكدة وهي راتبة غير منتقلة لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه من كتاب الله فهو كقول ابن دارة: [البسيط]
أنا ابْنُ دارةَ معروفاً بها نسبي *** وَهَلْ بِدَارَة يا للناسِ مِنْ عارِ
وما بين يديه هي التوراة والإنجيل وسائر كتب الله التي تلقيت من شرعنا كالزبور والصحف، وما بين اليد في هذه الحوادث هو المتقدم من الزمن.
و {التوراة والإنجيل} اسمان أصلهما عبراني لكن النحاة وأهل اللسان حملوها على الاشتقاق العربي فقالوا في التوراة: إنها من ورى الزناد يري إذا قدح وظهرت ناره يقال أوريته فوري، ومنه قوله تعالى: {فالموريات} [العاديات: 2] وقوله: {أفرأيتم النار التي تورون} [الواقعة: 70] قال أبو علي، فأما قولهم: وريت بك زنادي على وزن، فعلت فزعم أبو عثمان أنه استعمل في هذا الكلام فقط ولم يجاوز به غيره، وتوراة عند الخليل وسيبويه وسائر البصريين فوعلة كحوقلة وورية قلبت الواو الأولى تاء كما قلبت في تولج وأصله وولج من: ولجت، وحكى الزجاج عن بعض الكوفيين: أن توراة أصلها تفعلة بفتح العين، من: وريت بك زنادي، وإنما ينبغي أن تكون من: أوريت قال فهي تورية، وقال بعضهم: يصلح أن تكون تفعلة بكسر العين مثل توصية ثم ردت إلى تفعلة بفتح العين، قال الزجاج وكأنه يجيز ي توصية توصأة وذلك غير مسموع، وعلى كل قول فالياء لما انفتح ما قبلها وتحركت هي انقلبت ألفاً فقيل توراة، ورجح أبو علي قول البصريين وضعفه غيره، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم التورَاة مفتوحة الراء، وكان حمزة ونافع يلفظان بالراء بين اللفظين بين الفتح والكسر وكذلك فعلا في قوله {من الأبرار} و{من الأشرار} [ص: 62] و{قرار} إذا كان الحرف مخفوضاً، وروى المسيبي عن نافع فتح الراء من التوراة، وروى ورش عنه كسرها، وكان أبو عمرو والكسائي يكسران الراء من التوراة ويميلان من {الأبرار} وغيرها أشد من إمالة حمزة ونافع.
وقالوا في الإنجيل: إنه إفعيل من النجل وهو الماء الذي ينز من الأرض، قال الخليل: استنجلت الأرض وبها انجال إذا خرج منها الماء والنجل أيضاً والولد والنسل قاله الخليل وغيره، ونجله أبوه أي ولده، ومن ذلك قول الأعشى: [المنسرح]
أنجبُ أيّام والداه به *** أذ نَجَلاهُ فَنِعمَ مَا نَجَلا
قال ابن سيده عن أبي علي: معنى قوله أيام والداه به كما تقول: أنا بالله وبك، وقال أبو الفتح: معنى البيت، أنجب والداه به أيام إذ نجلاه فهو كقولك حينئذ ويومئذ لكنه حال بالفاعل بين المضاف الذي هو أيام وبين المضاف إليه الذي هو إذ. ويروى هذا البيت أنجب أيام والديه، والنجل الرمي بالشيء وذلك أيضاً من معنى الظهور وفراق شيء شيئاً، وحكى أبو القاسم الزجاجي في نوادره: أن الوالد يقال له، نجل وأن اللفظة من لأضداد، وأما بيت زهير فالرواية الصحيحة فيه:
وكل فحل له نجل ***
أي ولد كريم ونسل، وروى الأصمعي فيما حكى: وكل فرع له نجل، وهذا لا يتجه إلى على تسمية الوالد نجلاً. وقال الزجاج: {الإنجيل} مأخوذ من النجل وهو الأصل فهذا ينحو إلى ما حكى أبو القاسم قال أبو الفتح: ف {التوراة} من وري الزناد، إذا ظهرت ناره، و{الإنجيل} من نجل إذا ظهر ولده، أو من ظهور الماء من الأرض فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ، وإما من التوراة، و{الفرقان} من الفرق بين الحق والباطل، فحروفها مختلفة، والمعنى قريب بعضه من بعض، إذ كلها معناه، ظهور الحق، وبيان الشرع، وفصله من غيره من الأباطيل، وقرأ الحسن بن أبي الحسن الأنجيل بفتح الهمزة، وذلك لا يتجه في كلام العرب، ولكن يحميه مكان الحسن من الفصاحة، وإنه لا يقرأ إلا بما روى، وأراه نحا به نحو الأسماء الأعجمية.
وقوله تعالى: {من قبل} يعني من قبل القرآن، وقوله: {هدى للناس} معناه دعاء، والناس بنو إسرائيل في هذا الموضع، لأنهم المدعوون بهما لا غير، وإن أراد أنهما {هدى} في ذاتهما مدعو إليه فرعون وغيره، منصوب لمن اهتدى به، فالناس عام في كل من شاء حينئذ أن يستبصر.
قال القاضي رحمه الله: وقال هنا {للناس}، وقال في القرآن {هدى للمتقين}، وذلك عندي، لأن هذا خبر مجرد، وقوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] خبر مقترن به الاستدعاء والصرف إلى الإيمان، فحسنت الصفة، ليقع من السامع النشاط والبدار، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء، والهدى الذي هو في نفسه معد يهتدي به الناس، فسمي {هدى} لذلك، وقال ابن فورك: التقدير هنا هدى للناس المتقين، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص، وفي هذا نظر، و{الفرقان}: القرآن، سمي بذلك لأنه فرق بين الحق والباطل، قال محمد بن جعفر، فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام، الذي جادل فيه الوفد، وقال قتادة والربيع وغيرهما، فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع، وفي الحلال والحرام ونحوه، و{الفرقان} يعم هذا كله، وقال بعض المفسرين، {الفرقان} هنا كل أمر فرق بين الحق والباطل، فيما قدم وحدث، فيدخل في هذا التأويل طوفان نوح، وفرق البحر لغرق فرعون، ويوم بدر، وسائر أفعال الله تعالى المفرقة بين الحق والباطل، فكأنه تعالى ذكر الكتاب العزيز، ثم التوراة والإنجيل، ثم كل أفعاله ومخلوقاته التي فرقت بين الحق والباطل، كما فعلت هذه الكتب، ثم توعد تعالى الكفار عموماً بالعذاب الشديد، وذلك يعم عذاب الدنيا بالسيف والغلبة، وعذاب الآخرة بالنار، والإشارة بهذا الوعيد إلى نصارى نجران، وقال النقاش: إلى اليهود، كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وبني أخطب وغيرهم، و{عزيز}، معناه غالب، وقد ذل له كل شيء، والنقمة والانتقام، معاقبة المذنب بمبالغة في ذلك.


{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}
هذه الآية خبر عن علم الله تعالى بالأشياء على التفصيل، وهذه صفة لم تكن لعيسى ولا لأحد من المخلوقين، ثم أخبر عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات، وهذا أمر لا ينكره عاقل، ولا ينكر أن عيسى وسائر البشر لا يقدرون عليه، ولا ينكر أن عيسى عليه السلام من المصورين في الأرحام، فهذه الآية تعظيم لله تعالى في ضمنها الرد على نصارى نجران، وفي قوله: {إن الله لا يخفى عليه شيء} وعيد ما لهم، فسر بنحو هذا محمد بن جعفر بن الزبير والربيع، وفي قوله: {هو الذي يصوركم} رد على أهل الطبيعة، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة، وشرح النبي صلى الله عليه وسلم كيفية التصوير في الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره أن النطفة إذا وقعت في الحرم مكثت نطفة أربعين يوماً ثم تكون علقة أربعين يوماً ثم مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليها ملكاً فيقول: يا رب، أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه، وفي مسند ابن سنجر حديث: إن الله يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل ولحمه وشحمه وسائر ذلك من مني المرأة، وصور بناء مبالغة من: صار يصور إذا أمال وثنى إلى حال ما، فلما كان التصوير إمالة إلى حال وإثباتاً فيها، جاء بناؤه على المبالغة، والرحم موضع نشأة الجنين، و{كيف يشاء} يعني من طول وقصر ولون وسلامة وعاهة وغير ذلك من الأختلافات. و{العزيز} الغالب و{الحكيم} ذو الحكمة أو المحكم في مخلوقاته وهذا أخص بما ذكر من التصوير.
و {الكتاب} في هذه الآية القرآن بإجماع من المتأولين، والمحكمات، المفصلات المبينات الثابتات الأحكام، والمتشابهات هي التي فيها نظر وتحتاج إلى تأويل ويظهر فيها ببادئ النظر إما تعارض مع أخرى أو مع العقل، إلى غير من أنواع التشابه، فهذا الشبه الذي من أجله توصف ب {متشابهات}، إنما هو بينها وبين المعاني الفاسدة التي يظنها أهل الزيغ ومن لم يمعن النظر، وهذا نحو الحديث الصحيح، عن النبي عليه السلام، الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات أي يكون الشيء حراماً في نفسه فيشبه عند من لم يمعن النظر شيئاً حلالاً وكذلك الآية يكون لها في نفسها معنى صحيح فتشبه عند من لم يمعن النظر أو عند الزائغ معنى آخر فاسداً فربما أراد الاعتراض به على كتاب الله، هذا عندي معنى الإحكام والتشابه في هذه الآية، ألا اترى أن نصارى نجران قالوا للنبي عليه السلام، أليس في كتابك أن عيسى كلمة وروح منه؟ قال نعم، قالوا: فحسبنا إذاً.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فهذا التشابه، واختلفت عبارة المفسرين في تعيين المحكم والمتشابه المراد بهذه الآية، فقال ابن عباس المحكمات هي قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} [الأنعام: 151] إلى ثلاثة آيات، وقوله في بني إسرائيل {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات، وقال ابن عباس أيضاً: المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وما يؤمن به ويعمل، والمتشابه منسوخة ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به، وقال ابن مسعود وغيره: المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات.
قال الفقيه الإمام: وهذا عندي على جهة التمثيل أي يوجد الإحكام في هذا والتشابه في هذا، لا أنه وقف على هذا النوع من الآيات، وقال بهذا القول قتادة والربيع والضحاك، وقال مجاهد وعكرمة: المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو متشابه يصدق بعضه بعضاً، وذلك مثل قوله: {وما يضل به إلا الفاسقين} [البقرة: 26] وقوله: {كذلك يجعل الله الرجس على الذني لا يؤمنون} [الأنعام: 125].
قال الفقيه أبو محمد: وهذه الأقوال وما ضارعها يضعفها أن أهل الزيغ لا تعلق لهم بنوع مما ذكر دون سواه، وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكمات هي التي فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، والمشتابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية، وقال ابن زيد: المحكم ما أحكم فيه قصص الأنبياء والأمم وبين لمحمد وأمته، والمتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور بعضها باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبعضه بعكس ذلك نحو قوله: {حية تسعى} [طه: 20] و{ثعبان مبين} [الأعراف: 107] ونحو: اسلك يدك، وأدخل يدك، وقالت جماعة من العلماء منهم جابر بن عبد الله بن رئاب وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري، وغيرهما: المحكمات من آي القرآن ما عرف العلماء تأويله وفهمو معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
قال القاضي رحمه الله: أما الغيوب التي تأتي فهي من المحكمات، لأن ما يعلم البشر منها محدود وما لا يعلمونه وهو تحديد الوقت محدود أيضاً، وأما أوائل السور فمن المتشابه لأنها معرضة للتأويلات ولذلك اتبعته اليهود وأرادوا أن يفهموا منه مدة أمة محمد عليه السلام، وفي بعض هذه العبارات التي ذكرنا للعلماء اعتراضات، وذلك أن التشابه الذي في هذه الآية مقيد بأنه مما لأهل الزيغ به تعلق، وفي بعض عبارات المفسرين تشابه لا يقتضي لأهل الزيغ تعلقاً.
وقوله تعالى: {أم الكتاب} فمعناه الإعلام بأنها معظم الكتاب وعمدة ما فيه إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل ولم يفرط في شيء منه، قال يحيى بن يعمر: هذا كما يقال لمكة-أم القرى- ولمرو أو خراسان، وكما يقال أم الرأس لمجتمع الشؤون إذ هو أخطر مكان، قال المهدوي والنقاش: كل آية محكمة في كتاب الله يقال لها {أم الكتاب}، وهذا مردود بل جميع المحكم هو {أم الكتاب}، وقال النقاش: وذلك كما تقول: كلكم عليَّ أسد ضار.
قال الفقيه أبو محمد: وهذا المثال غير محكم، وقال ابن زيد: {أم الكتاب} معناه جماع الكتاب، وحكى الطبري عن أبي فاختة أنه قال: {هن أم الكتاب} يراد به فواتح السور إذ منها يستخرج القرآن {الم ذلك الكتاب} منه استخرجت سورة البقرة {الم الله لا إله إلا هو} منه استخرجت سورة آل عمران، وهذا قول متداع للسقوط مضطرب لم ينظر قائله أول الآية وآخرها ومقصدها وإنما معنى الآية الإنحاء على أهل الزيغ والأشارة بذلك أولاً إلى نصارى نجران وإلى اليهود الذين كانوا معاصرين لمحمد عليه السلام فإنهم كانوا يعترضون معاني القرآن، ثم تعم بعد ذلك كل زائغ، فذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب على محمد إفضالاً منه ونعمة، وأن محكمه وبينه الذي لا اعتراض فيه هو معظمه والغالب عليه، وأن متشابهه الذي يحتمل التأويل ويحتاج إلى التفهم هو أقله. ثم إن أهل الزيغ يتركون المحكم الذي فيه غنيتهم ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة وأن يفسدوا ذات البين ويردوا الناس إلى زيغهم، فهكذا تتوجه المذمة عليهم، و{أخر} جمع أخرى لا ينصرف لأنه صفة، وعدل عن الألف واللام في أنه يثنى ويجمع، وصفات التفضيل كلها إذا عريت عن الألف واللام لم تثن ولم تجمع كأفضل وما جرى مجراه، ولا يفاضل بهذه الصفات بين شيئين إلا وهي منكرة، ومتى دخلت عليه الألف واللام زال معنى التفضيل بين أمرين، وليس عدل {أخر} عن الألف واللام مؤثراً في التعريف كما هو عدل- سحر- بل أخر نكرة، وأما سحر فعدل بأنه زالت الألف واللام وبقي معرفة في قوله، جئت يوم الجمعة سحر، وخلط المهدوي في هذه المسألة وأفسد كلام سيبويه فتأمله.
قوله تعالى:
{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}
قوله تعالى: {الذين في قلوبهم زيغ} بعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل صاحب بدعة، والزيغ الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، والإشارة بالآية في ذلك الوقت كانت إلى نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى عليه السلام، قاله الربيع، وإلى اليهود، ثم تنسحب على كل ذي بدعة أو كفر، وبالميل عن الهدى فسر الزيغ محمد بن جعفر بن الزبير وابن مسعود وجماعة من الصحابة ومجاهد وغيرهم، و{ما تشابه منه} هو الموصوف آنفاً- بمتشابهات- وقال قتادة في تفسر قوله تعالى {وأما الذين في قلوبهم زيغ}: إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج، فلا أدري من هم؟ وقالت عائشة: إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن فهم الذي عنى الله فاحذروهم، وقال الطبري: الأشبه أن تكون الآية في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدته ومدة أمته بسبب حروف أوائل السور، وهؤلاء هم اليهود، و{ابتغاء} نصب على المفعول من أجله، ومعناه طلب الفتنة، وقال الربيع، {الفتنة} هنا الشرك، وقال مجاهد: {الفتنة} الشبهات واللبس على المؤمنين، ثم قال: {وابتغاء تأويله} والتأويل هو مرد الكلام ومرجعه والشيء الذي يقف عليه من المعاني، وهو من آل يؤول، إذا رجع، فالمعنى وطلب تأويله على منازعهم الفاسدة.
هذا فيما له تأويل حسن وإن كان مما لا يتأول بل يوقف فيه كالكلام في معنى الروح ونحوه، فنفس طلب تأويله هو اتباع ما تشابه. وقال ابن عباس: ابتغوا معرفة مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ثم قال: {وما يعلم تأويله إلا الله} فهذا على الكمال والتوفية فيما لا يتأول ولا سبيل لأحد إليه كأمر الروح وتعرف وقت قيام الساعة وسائر الأحداث التي أنذر بها الشرع، وفيما يمكن أن يتأوله العلماء ويصح التطرق إليه، فمعنى الآية: وما يعلم تأويله على الكمال إلا الله.
واختلف العلماء في قوله تعالى: {والراسخون في العلم} فرأت فرقة، أن رفع {والراسخون} هو بالعطف على اسم الله عز وجل وأنهم داخلون في علم المتشابه في كتاب الله وأنهم مع علمهم به، {يقولون آمنا به} الآية. قال بهذا القول ابن عباس، وقال: أنا ممن يعلم تأويله، وقال مجاهد: والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير وغيرهم، و{يقولون} على هذا التأويل نصب على الحال، وقالت طائفة أخرى: {والراسخون} رفع بالابتداء وهو مقطوع من الكلام الأول وخبره {يقولون}، والمنفرد بعلم المتشابه هو الله وحده بحسب اللفظ في الآية وفعل الراسخين قولهم {آمنا به} قالته عائشة وابن عباس أيضاً، وقال عروة بن الزبير: إن الراسخين لا يعلمون تأويله ولكنهم يقولون، {آمنا به}، وقال أبو نهيك الأسدي: إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم {آمنا به كل من عند ربنا} وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز، وحكى نحوه الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس.
قال القاضي رحمه الله: وهذه المسألة إذا تؤملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق، وذلك أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين:- محكماً ومتشابهاً- فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب لا يحتاج فيه إلى نظر ولا يتعلق به شيء يلبس ويستوي في علمه الراسخ وغيره والمتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم البتة، كأمر الروح، وآماد المغيبات التي قد أعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلك، ومنه ما يحمل وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب، فيتأول تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق به من تأويل غير مستقيم كقوله في عيسى {وروح منه} [النساء: 171] إلى غير ذلك، ولا يسمى أحد راسخاً إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدر له، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمى راسخاً، وقوله تعالى: {وما يعلم تأويله} الضمير عائد على جميع متشابه القرآن، وهو نوعان كما ذكرنا، فقوله {الا الله} مقتض ببديهة العقل أنه يعلمه على الكمال والاستيفاء، يعلم نوعيه جميعاً، فإن جعلنا قوله: {والراسخون} عطفاً على اسم الله تعالى، فالمعنى إدخالهم في علم التأويل لا على الكمال، بل علمهم إنما هو في النوع الثاني من المتشابه، وبديهة العقل تقضي بهذا، والكلام مستقيم على فصاحة العرب كما تقول: ما قام لنصرتي إلا فلان وفلان، وأحدهما قد نصرك بأن حارب معك، والآخر إنما أعانك بكلام فقط، إلى كثير من المثل، فالمعنى {وما يعلم} تأويل المتشابه إلا الله {والراسخون} كل بقدره، وما يصلح له، {والراسخون} بحال قول في جميعه {آمنا به}، وإذا تحصل لهم في الذي لا يعلم ولا يتصور عليه تمييزه من غيره فذلك قدر من العلم بتأويله، وإن جعلنا قوله: {والراسخون}، رفعاً بالابتداء مقطوعاً مما قبله، فتسميتهم راسخين يقتضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم، إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع، وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام وموارد الأحكام، ومواقع المواعظ، وذلك كله بقريحة معدة، فالمعنى {وما يعلم تأويله} على الاستيفاء إلى الله، والقوم الذي يعلمون منه ما يمكن أن يعلم يقولون في جميعه {آمنا به كل من عند ربنا} وهذا القدر هو الذي تعاطى ابن عباس رضي الله عنه، وهو ترجمان القرآن، ولا يتأول عليه أنه علم وقت الساعة وأمر الروح وما شاكله. فإعراب {الراسخون} يحتمل الوجهين، ولذلك قال ابن عباس بهما، والمعنى فيهما يتقارب بهذا النظر الذي سطرناه، فأما من يقول: إن المتشابه إنما هو ما لا سبيل لأحد إلى علمه فيستقيم على قوله إخراج الراسخين من علم تأويله، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح، بل الصحيح في ذلك قول من قال: المحكم ما لا يحتمل إلا تأويلاً واحداً والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً، وهذا هو متبع أهل الزيغ، وعلى ذلك يترتب النظر الذي ذكرته، ومن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه فإنما أرادوا هذا النوع وخافوا أن يظن أحد أن الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال، وكذلك ذهب الزجاج إلى أن الإشارة بما تشابه منه إنما هي إلى وقت البعث الذي أنكره، وفسر باقي الآية على ذلك، فهذا أيضاً تخصيص لا دليل عليه، وأما من يقول، إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس: إلا الله ويقول: {الراسخون في العلم آمنا به}، وقرأ ابن مسعود {وابتغاء تأويله}، إن تأويله إلا عند الله،- {والراسخون في العلم} يقولون {آمنا به}- والرسوخ في الثبوت في الشيء، وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل أو الشجر في الأرض وسئل النبي عليه السلام عن {الراسخين في العلم}، فقال: هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام، وقوله: {كل من عند ربنا} فيه ضمير عائد على كتاب الله، محكمه ومتشابهه، والتقدير، كله من عند ربنا، وحذف الضمير لدلالة لفظ كل عليه، إذ هي لفظة تقتضي الإضافة. ثم قال تعالى: {وما يذكر إلا أولو الألباب} أي ما يقول هذا ويؤمن به ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلاذو لب، وهو العقل، و{أولو}: جمع ذو.


يحتمل أن تكون هذه الآية حكاية عن الراسخين في العلم، أنهم يقولون هذا مع قولهم {آمنا به} [آل عمران: 7] ويحتمل أن يكون المعنى منقطعاً من الأول لما ذكر أهل الزيغ وذكر نقيضهم، وظهر ما بين الحالتين عقب ذلك بأن علم عبادة الدعاء إليه في أن لا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت وهي أهل الزيغ، وهذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم، إن الله لا يضل العباد، ولو لم تكن الإزاغة من قبله لما جاز أن يدعي في دفع ما لا يجوز عليه فعله و{تزغ} معناه، تمل قلوبنا عن الهدى والحق، وقرأ أبو واقد، والجراح {ولا تزغ قلوبُنا} بإسناد الفعل إلى القلوب، وهذه أيضاً رغبة إلى الله تعالى. وقال أبو الفتح: ظاهر هذا ونحوه الرغبة إلى القلوب وإنما المسؤول الله تعالى، وقوله الرغبة إلى القلوب غير متمكن، ومعنى الآية على القراءتين، أن لا يكن منك خلق الزيغ فيها فتزيغ هي. قال الزجاج: وقيل: إن معنى الآية لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ منها قلوبنا.
قال الفقيه الإمام: وهذا قول فيه التحفظ من خلق الله تعالى الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد، و{من لدنك} معناه: من عندك ومن قبلك، أن تكون تفضلاً لا عن سبب منا ولا عمل، وفي هذا استسلام وتطارح، والمراد هب لنا نعيماً صادراً عن الرحمة لأن الرحمة راجعة إلى صفات الذات فلا تتصور فيها الهبة.
وقوله تعالى: {ربنا إنك جامع الناس} إقراب بالبعث ليوم القيامة، قال الزجاج: هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون فأقروا به، وخالف الذين اتبعوا ما تشابه عليهم من أمر البعث حين أنكروه، والريب: الشك، والمعنى أنه في نفسه حق لا ريب فيه وإن وقع فيه ريب عند المكذبين به فذلك لا يعتد به إذ هو خطأ منهم، وقوله تعالى: {إن الله لا يخلف الميعاد} يحتمل أن يكون إخباراً منه محمداً عليه السلام وأمته، ويحتمل أن يكون حكاية من قول الداعين، ففي ذلك إقرار بصفة ذات الله تعالى، و{الميعاد} مفعال من الوعد.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8